Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
الريف في بلاد الشام من
( 1099 م إلى 1192م / 492 هـ إلى 588 هـ )
الناشر
جامعةعين شمس.البنات.التاريخ
المؤلف
على,صلاح الدين عبد المنعم السيد
تاريخ النشر
2007
عدد الصفحات
p287
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 312

from 312

المستخلص

أدى زرع الكيان الصليبي في منطقة بلاد الشام لمزيد من التفاعل والصراع مع الجبهة الإسلامية ، وخلال فترة الدراسة تحرك ذلك الصراع ما بين الاحتدام والفتور ، وانعكس ذلك على المساهمة في تشكيل مجموعة من التحديات أمام كل جبهة ، ولمواجهة تلك التحديات كان لابد من الاعتماد على عدة أدوات لتحقيق الاستجابة الملائمة ، ويتصدر الريف تلك الأدوات ، ونستطيع أن نرصد الخبرة التي اكتسبتها كل جبهة في إدارة الريف لمواجهة طبيعة الصراع المتغيرة ، في عدة مستويات مختلفة منها العسكرية والاقتصادية وكذلك الإفرازات ا لاجتماعية ، وكان لتدعيم تلك الاستجابة ظهور مجموعة من العلاقات كان محورها الريف ، وذلك لمواءمة الريف لخدمة مصالح كل جبهة لأقصى درجة .
مثلت عملية زرع الكيان الصليبي أكبر تحدى واجه الصليبيين ، فكانت الاستجابة في الاستقطاع التدريجي للأرياف الإسلامية وارتبط ذلك بمدى نشاط الأداة العسكرية ، ثم انتقل الصليبيون لنوع آخر من التحديات وهو كيفية إدارة الاقطاعات عامة والريفية خاصة ، فكانت الاستجابة التي تمثلت في الظهور التدريجي للقنوات الشرعية التي أقرها الصليبيون فيما بينهم في بلاد الشام لإدارة تلك الأرياف ، ففي الفترة الباكرة من الوجود الصليبي ارتسمت قناة رئيسية نفذت من خلالها بعض الأطراف الصليبية لإدارة الريف ، تمثلت في ” قانون الغزو ” law of conquest ، كما كان لتولي الحاكم الصليبي ، أو ظهور الملكية أن ارتسمت قناة شرعية أو أساسية لإدارة الأرياف تمثلت في سياسية (المنح ) للإقطاعات عامة والريفية خاصة ، وحينما تسربت الإقطاعات لكبار السادة الإقطاعيين ، تحولوا هم أيضاً لمانحين ، ثم تحركت واتسعت العلاقة بين المانح والممنوحين على مستويات مختلفة . كما ساهم ” قانون الوراثة ” وخاصة توريث الأناث في رسم قناة شرعية جديدة لإدارة الإقطاعات الريفية تمثلت في ” سياسة الزواج ” من الوريثات أو الأرامل ، فمكن ذلك فرسان الغرب الأوروبي من إدارة الأرياف ، وبالتالي ترتيبهم في الهرم الإقطاعي في بلاد الشام .
ساهمت تلك القنوات الشرعية في تعدد ونفاذ الأطراف الصليبية المتعددة لإدارة بعض أرياف بلاد الشام . ولكن ازدياد عبء الصراع العسكري بين الجبهتين الإسلامية والصليبية ، ساهم في إظهار مدى ضعف بعض الإدارات الصليبية ، فكانت الاستجابة في ظهور قناة جديدة تمثلت في عملية ” البيع والشراء ” ، فساهم ذلك في تمكين الطوائف أو الفئات الصليبية الأقوى من إدارة المزيد من الأرياف ، وانعكس ذلك على المزيد من ثراء تلك الطوائف وخاصة فرق الفرسان الرهبان ، كما ساهم في تحقيق المزيد من استغلال الريف وبالتالي اكتساب الخبرة .
بذلك يمكننا القول أن المؤثر في تحريك معيار القوة بين الجبهتين هو حجم ما تملكه وتديره كل جبهة من الأرياف ، لذلك وعت الجبهة الإسلامية تلك النتيجة ، وحينما وجدت أن ما تبقى من أرياف إسلامية ممزقة في بلاد الشام لا يوفر الدعم الاقتصادي والعسكري اللازم لاستقطاع واسترداد باقي أرياف الشام من الجبهة الصليبية ، لذا اهتم قادة الوحدة الإسلامية بضرورة الاعتماد بل وتوحيد الأرياف الإسلامية خارج نطاق بلاد الشام ، وهو ما تم تدريجياً حتى اكتمل توحيد أرياف مصر وبعض أرياف الشام والعراق تحت قيادة القائد صلاح الدين الأيوبي ومحاولة إدارتها اقتصادياً وعسكرياً لاسترداد باقي الأرياف من الجبهة الصليبية .
حاولت كل جبهة إدارة الريف اقتصادياً ، وكانت الاستجابة في إحداث عدة تغييرات منها سياسة تعامل الصليبيين مع السكان الوطنيين وخاصة ا لمسلمين فتحولت من المذابح ا لدموية إلى سياسة ” التعايش الحذر ” ، وذلك للاستفادة من خبرتهم الاقتصادية وخاصة الزراعة ، أما التغييرات الأخرى فكانت مصاحبة للخريطة الزراعية على مستوى شبكة الري سواء بصيانة بعض تلك الوسائل والبنية الأساسية ، أي صيانة بعض جهود الإدارة الإسلامية في ذلك المجال إلي جانب إضافة بعض القنوات والصهاريج لمحاولة توظيف المورد المائي للانتاج الاقتصادي ، كذلك أصاب التغيير المحاصيل الزراعية ليس على مستوى إدخال محاصيل جديدة ، ولكن من زاوية اتساع وانتشار بعض المحاصيل ، وارتبط ذلك الاتساع والانتشار بعدة اعتبارات منها أهمية الدخل الاقتصادي وكذلك المذاق الصليبي وهو انعكاس للعادات والتقاليد الأوروبية وأيضاً الطقوس الدينية والأمور المعيشية للحياة اليومية .. فأدى ذلك لانتشار زراعة الكروم والزيتون وقصب السكر والقمح والبلسم .. كما كانت الزراعة هي حجر الزاوية للمنظومة الاقتصادية فحينما يحسن إدارة واستغلال الأرياف زراعياً ، يكون لذلك مردوده على ركني تلك المنظومة الصناعة والتجارة وبالتالي قيام السادة الإقطاعيين بمهامهم الإدارية والعسكرية المنوطة بهم .
كان لتلك الأهمية الاقتصادية للأرياف أن وظفت من قبل الجبهتين وخاصة الإسلامية للاستفادة منها في تحقيق بعض المكاسب السياسية أو الأهداف العسكرية ، فكثيراً ما ربطت المصادر بين نشاط العمليات العسكرية بـ ” أوان نضج المحاصيل ” فاستخدم القادة المسلمون أسلوب الضغط على الأرياف كنوع من إنهاك الجبهة الصليبية كما فعل مودود عام 506 – 507هـ / 1113م ” لم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة ” كما لجأ صلاح الدين الأيوبي إلى ذلك الأسلوب لتحقيق المزيد من الانهاك الاقتصادي للجبهة الصليبية وذلك ما يفسر لنا تكثيف حملاته ضد أرياف مملكة بيت المقدس في الفترة الممتدة من 575 – 582هـ / 1179 – 1186 م .
لكن ذلك الأسلوب لم يأت في بعض الأحيان بالفعالية المرجوة منه ، وخاصة إذا كان المقابل تحقيق السيطرة على الأرض وذلك حينما كثف الصليبيون الهجوم على أرياف دمشق عام 578هـ / 1182م ، ووصفته المصادر بالعنف والوحشية ” فدمروا كل ما صادفوه من زرع وضرع ” ، وذلك للحيلولة بين صلاح الدين والسيطرة على أرياف الجزيرة ، إلا أنها لم تحقق الهدف العسكري المرجو منها وهو ما أوضحته لنا المصادر على لسان صلاح الدين ” يخربون قرى وتملك عوضها بلاداً ، ثم نعود . فنعمرها ، ونقوى على قصد بلادهم ” كما تطورت الأعباء العسكرية ضد الأرياف ، وخاصة حينما زادت قوة الصدام العسكري بين الجبهتين في الفترة الممتدة من 585هـ - 587هـ / 1190 – 1192م ، فانعكس ذلك على حرق وتدمير الأرياف وهو ما حدث للأرياف الإسلامية المحبطة بمدينة عسقلان لعرقلة مهمة الامدادات للجيش الصليبي ، وكذلك لتركيز الجيش الإسلامي للدفاع عن مدينة بيت المقدس ، وخاصة أن العماد الأصفهاني بين أنه ” لا سبيل إلى حفظ المدينتين .. فإن كل واحد منهما يحتاج في حفظه إلى عشرين ألف مقاتل ”
بذلك ساهمت طبيعة الصراع بين الجبهتين في نضج الخبرة العسكرية لدى قادة ذلك العصر في كيفية توظيف الريف عسكرياً واستخدامه كأسلوب ضغط على الجبهة الأخرى لتحقيق بعض الأهداف السياسية والعسكرية وإن ظهرت تلك الخبرة بصورة أوضح لدى قادة الجبهة الإسلامية .
لكي يكون هناك تدعيم للاستجابة في توظيف الريف لمواجهة تحديات ذلك الصراع ارتسمت ووضحت بعض العلاقات ، والتي كان محورها الريف فظهرت علاقة تبادلية تدعيمية بين الريف وجيش الميدان على عدة مستويات منها ، مساهمة الريف في تكوين القوة الأساسية للجيش العامل ، وخاصة بعد منح الفرسان للإقطاعات عامة والريفية خاصة ، فوضح لامونت ( La Monte) قيمة ذلك التدعيم ” الفرسان الذين التزموا بالخدمة العسكرية مقابل إقطاعهم كانوا يشكلون العمود الفقري للجيش في مملكة اللاتين ” . ومع اتساع أرياف كل جبهة انعكس ذلك على إعداد وحجم الجيش العامل ، كما كان تنوع الفئات المشكلة لذلك الجيش هو انعكاس لتنوع فئات السادة الإقطاعيين المتحكمين في أرياف بلاد الشام كان لتلك العلاقة بعض التحديات حيث أن ذلك ولد عدداً من نقاط الضعف في التنظيم العسكري ، لأن الفارس أصبح مسئولاً عن أرض ريفية ، وبذلك فرض عليه القيام بدورين ، دور كفارس وما عليه من التزامات عسكرية ، ودور كسيد اقطاعي لابد من إدارة إقطاعيته خير إدارة لتوفير القاعدة المالية ، وللمساهمة في تدعيم القيام بالدور الأول على الوجه الملائم . ولذا كان لابد من التنظيم والترتيب لمساعدة الفارس للقيام بالدورين دون اعتراض ، مع طول الفترات لتحقيق الأهداف العسكرية كانت يظهر الضعف في ذلك التنظيم ، لكن مع وجود القيادة الجادة كانت تنحصر أوجه الضعف نسبياً .
نتيجة لأهمية الأرياف في تشكيل الجيوش الإقطاعية ، تبلورت فكرة أساسية في ضرورة مساهمة الكنائس والأديرة اللاتينية والطبقة الوسطى المسيطرين على مساحات ريفية – في تقديم الخدمات الحربية للملك ، ليس على أساس العلاقات الإقطاعية ، ولكن بناء على ما بحوزتهم من أملاك عامة وريفية خاصة ، مما أدى لتدعيم جيش الميدان الصليبي .
أما المستوى الثاني من تلك العلاقة بين الريف والجيش ، فقد مثل الريف فيها دوراً هاماً في تموين جيش الميدان ، خاصة وأن مشكلة تموين الجيوش المتحركة لتحقيق الأهداف العسكرية ، كانت من أكبر المشاكل التي تواجه القادة العسكريين . وكانت المشكلة تزداد صعوبة حينما يكون الجيش كبير العدد مع طول خط سيرة لتحقيق تلك الأهداف ، ولما كان من الصعوبة البالغة أن يتمكن الجيش من حمل مؤنه اللازمة لاجتياز الطريق لذا وقع العبء الأكبر لتموين جيش الميدان لاستكمال اجتياز الطريق على كاهل الأرياف الواقعة في نطاق خط سير ونشاط الجيش المتحرك ووضح لنا فوشيه مدى أهمية الأرياف في تموين الجيوش حينما تحرك الجيش الصليبي عام 492هـ / 1099م من عرقه في طريقة لبيت المقدس كانوا معتمدين على حصاد الريف لتوفير مؤن الجيش فقد ذكر ” للوصول إلى القدس أثناء موسم الحصاد .. سيكون بمقدورهم أن يعيشوا على المحاصيل في كل مكان ، وعلى المؤن التي يوفرها الرب ” . وتفاوتت أعباء تموين الجيش على الأرياف حسب موقعها من خط سير جيش الميدان ، أو قربها من المدن التي يريد الجيش السيطرة عليها .
حينما عجزت الأرياف عن إمداد الجيش الصليبي أمام أنطاكية عام 491 هـ /1098م وضحت المجاعة بأقوى صورها ، وكان أصعب تلك المجاعات ، ما حدث أمام مدينة معرة النعمان في الفترة من 491 هـ 1098 م إلى 1099م ، فنتيجة عجز أرياف معرة النعمان عن تموين الجيش الصليبي أكل الصليبيون لحوم البشر.
وضحت علاقة تدعيمية بين الريف والمدن على عدة مستويات فعلى المستوى العسكري ساهمت المدن والأماكن المحصنة في فرض الهيمنة والسيطرة على أرياف بلاد الشام ، فكانت مهمة الجيش العامل استقطاع الأرياف أما السيطرة الدائمة فكان ذلك وظيفة المدن والأماكن المحصنة ، وارتبط استمرار تلك السيطرة على الأرياف ببقاء تلك المدن مصانة ، وتوقف بقاء المدن تحت السيطرة إلى ما تقدمه الأرياف المجاورة لها من امدادات ، وأن تفاوتت أهمية تلك الامدادات الريفية بالنسبة للمدن الداخلية عن الساحلية ، ووعي القادة العسكريون تلك النقطة ، فتمثل مفتاح سقوط المدن والقلاع باجهاد وأريافها .
أما على المستوى الاقتصادي فساهمت المدن بما تحتويه من أسواق والتي تبارت المصادر في وصفها ، فكانت بمثابة مراكز لتصريف المنتجات الريفية ، حتى أن ازدهار القرى اقتصادياً ارتبط بحجم تلك الأسواق ، كما دعم الازدهار لبعض القرى طبقة التجار وخاصة تجار المدن الإيطالية ، التي ساهمت في اتساع تسويق المنتجات الريفية في غرب أوروبا لذلك ساهمت أسواق المدن ومواني الساحل في تدعيم ذلك الازدهار لبعض قرى بلاد الشام .
كان لطبيعة الصراع الإسلامي – الصليبي آثارها الاجتماعية على خريطة بلاد الشام ، ووضح ذلك في منسوب الكثافة السكانية والتي تفاوت منسوبها خلال فترة الدراسة ، كما ساهم الريف في ظهور مصطلح ” الصليبيون ” سواء على مستوى بنيه تكوينة ، وذلك من خلال الاعتماد على الريف في جذب العناصر الأوروبية ، أو تكوين المستوطنات الزراعية ، وكذلك على مستوى بعض العادات والتقاليد المكتسبة في البيئة الشرقية ، وكذلك ظهور لغة موائمة لتلك الجنسيات السابقة .
نستطيع أن نصف ذلك بـ ” التشرق ” وقد رصدت لنا بعض المصادر ذلك ، فوضح لنا أسامة بن منقذ كيف تأثر بعض الصليبين الذين استقروا في بلاد الشام وعايشوا المسلمين وتأثروا بحضارتهم وهؤلاء ” قوم من الأفرنج تبلدوا وعاشروا المسلمين فهم أصلح من القريبي العهد ببلادهم ” وهم يختلفون عن الصليبين الوافدين حديثاً إلى الشرق لأن ” كل من هو قريب العهد بالبلاد الأفرنجية أجفي أخلاقاً من الذين تبلدوا وعاشروا المسلمين ” .
كما عبر فوشيه عن ظاهرة التمشرق تلك ، ودورها في إظهار مصطلح ” الصليبيون ” وميلاده في بيئة بلاد الشام فقد دون ” فكرت ملياً في كيف أن الرب في أيامنا هذه قد حول الغرب إلى شرق ، فالذين كانوا بالأمس غربيين أصبحوا الآن شرقيين . ومن كان من البيزنطيين أو من الفرنج أصبح الآن من الجليل أو من سكان فلسطين . والذي كانوا من مواطني وأبناء ريمس أو شارتر أصبحوا الآن مواطنين من مواطني صور أو أنطاكية . لقد نسينا الأوطان التي ولدنا فيها ، وأصبحنا الآن نجهل أوطاننا ، أو على الأقل لم نعد نذكرها ... بسبب ... المصاهرة والتزاوج ، أصبح لبعض الفرنجة حماه أو حمى أو زوجة ابن ... وكان هناك أحفاد ... وتعددت اللغات واللهجات ... وأصبحت ... معروفة لدى كل الأجناس ... والذين كانوا أجانب أصبحوا الآن وطنيين .. ” نستطيع القول أن ظاهرة ” التمشرق ” تلك كانت بمثابة تحدى واجه الصليبيين في الشرق ، وهو ما ساهم في إصابة الحركة الصليبية فيما بعد بالفتور .
جملة القول أن طبيعة الصراع بين الجبهتين الإسلامية والصليبية ، انعكس على إكساب كل جبهة الخبرة في توظيف الريف كأداة للاستجابة لمواجهة التحديات المختلفة الناتجة من طبيعة ذلك الصراع وتم التوظيف على المستوى العسكري والاقتصادي ، وساهم ذلك في ظهور الآثار الاجتماعية والتي تمثلت في عناصر سكانية جديدة أضيفت للتركيبة السكانية لبلاد الشام عامة وريفة خاصة ، وبذلك تم إضافة تلك الخبرة المكتسبة في السجل التاريخي ، وهو كيفية إدارة الأرياف في ظل عجلة الصراع الإسلامي – الصليبي مما ساهم في التعجيل باكتساب الخبرة البشرية .